recent
أخبار ساخنة

التحليل النفسي من فرويد إلى ما بعد الفرويدية

التحليل النفسي من فرويد إلى ما بعد الفرويدية
التحليل النفسي من فرويد إلى ما بعد الفرويدية


لقد كانت ، في أواخر القرن 19 ، العديد من القضايا تشغل اهتمامات العلماء في مجال البيولوجيا والفيزيولوجيا. وفي مقدمتها مرض الهستيريا والتنويم المغناطيسي...ذلك أن تفسيراتهم وفرضياتهم لم تكن مقنعة من الناحية العلمية والسيكولوجية ، وفي خضم هذه الأسئلة ظهر "سيغموند فرويد" كشخصية علمية متميزة ، حيث استطاع ، من خلال استفادته من دروس الطبيب "شاركو" في باريس وعلاقته "ببروير" تشخيص حالة "أنا أو" التي كانت تعاني من أعراض هستيرية.

إن محاولة "فرويد"  ربط الأعراض الهستيرية بالرغبات الجنسية المكبوتة، والاستيهامات الطفولية بالأمراض العصابية ، كانت بمثابة "ثورة" في مجال السيكولوجية. والملاحظ أن "فرويد" كان يعتمد في البداية ، على التنويم المغناطيسي كطريقة إكلينيكية للكشف عن الدوافع والرغبات والخبرات اللاشعورية ، لكن سرعان ما تخلى عنها ، بالنظر إلى صعوبة تطبيقها على بعض الحالات ، بالاضافة إلى المخاطر المترتبة عن عملية استيقاظ المفحوص الخاضع للتنويم. وبالتالي استبدل هذه الطريقة بتقنية جديدة وهي التداعي الحر كقاعدة أساسية للعلاج التحليلي.
وتتلخص هذه الطريقة ، في توفير كل شروط الراحة والثقة ، من أجل فتح المجال للمفحوص ، حتى يتمكن من التعبير عن كل ما يجول في ذهنه وما يشعر به ، دون حرج في البوح عن التجارب والأسرار الخاصتين.
كل كلمة لها معنى ولها علاقة غير مباشرة بالمكبوت. ووظيفة المحلل النفسي تتحدد في الكشف عن هذه الرغبة التي أدت إلى ظهور الأعراض ، ويعتمد المحلل النفسي على الأريكة قصد الإنصات والملاحظة والتأويل.



عموما  ، يمكن القول أن "فرويد" جاء بالكثير من الأفكار والمفاهيم والنظريات ، التي ساهمت إلى حد كبير ، في حل ألغاز العالم النفسي الداخلي للإنسان وتأويل العديد من الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية. بالموازاة لذلك ، اقترح مجموعة من التقنيات والطرق الإكلينيكية ، والتي عبرت عن عبقريته وذكائه.
ومعظم هذه التقنيات ما تزال تعتمد وتطبق في عيادات التحليل النفسي والعلاج النفسي.
ويمكن اختزال أهم مرتكزات المشروع الفرويدي في الوقائع التالية: 
- اكتشاف اللاشعور: الملاحظ أن هذا المفهوم ، كان حاضرا في بعض النصوص الفلسفية لفلاسفة من أمثال "سبينوزا" ، "ليبنيز" ، "شوبنهاور"...لكن استطاع "فرويد" أن يرقى بهذا المفهوم إلى مستوى النظرية السيكولوجية وبالتالي ، جعله أساس الممارسة الإكلينيكية في الجلسة التحليلية.
- التحليل النفسي الذاتي: استطاع "فرويد" ، من خلال وضع نفسه على أريكة التحليل النفسي ، العودة إلى ماضيه الطفولي ، وما يحمله من خبرات و تجارب و صدمات و أحلام و استيهامات...وذلك من أجل صياغة نظرية عامة وكونية حول مراحل النمو الجنسي عند الطفل وما ترافقها من رغبات جنسية وعدوانية. وفي إحدى رسائله إلى صديقه "وليام فيليس 1897" ، كتب يقول : "إن المريض الذي أهتم به أكثر ، هو أنا".
- الملاحظة الإكلينيكية: تعتبر الحالات التي شخصها "فرويد" بمثابة مصادر نظرية للتحليل النفسي ، سواء في نظريته الأولى "الإغراء 1896"  التي تحولت إلى نظرية "الاستيهامات الجنسية 1897" ، أو سواء في أدوات البحث الإكلينيكي المعتمدة في التشخيص والعلاج وتصنيف الأمراض النفسية والعقلية.



عموما ، يمكن القول أن مرحلة التحليل النفسي الفرويدي كانت حافلة بالانجازات والاكتشافات الجديدة تنظيرا وممارسة. كما كانت تتميز بالمراجعة وإعادة النظر في مواقفها السابقة ، ولعل أهم مثال يمكن أن يساق هنا ، هو ما قام به "فرويد" من مراجعته للموقعية الأولى ( اللاشعور ، شعور ، ما قبل الشعور ) في سنة 1899 وتعويضها بالموقعية الثانية ( الهو ، الأنا ، الأنا الأعلى ) في سنة 1923 ، حيث استطاع أن يحدد ، بنوع من الدقة ، منطق الصراع بين مكونات وعناصر الجهاز النفسي ، لكن ومع ذلك ، الملاحظ أن مسيرة نجاح التحليل النفسي لم تنته مع "فرويد"، بل استمرت في مرحلة ما بعد الفرويدية ، حيث شهدت امتدادات وتطورات اتسمت بالغنى والثراء ، كما تميزت بتخصصها في قضايا محددة من قبل : الجنس و الطفل و اللغة و المجتمع وهذا ما فتح أفاقا رحبة في مجال تطوير التحليل النفسي وضمان استمراريته ومقاومته لكل أشكال النقد التي تعرض لها على امتداد تاريخه.
وفي هذا السياق ، يمكن الإشارة إلى أسماء مثل "ميلاني كلاين" و "أنا فرويد" و "فرانسوازتولد" و "دونالد وينيكوت"...كل هؤلاء تخصصو في -التحليل النفسي للطفل- وهذا الاهتمام الخاص بالطفل ، ساهم في صياغة نظرية التحليل النفسي للطفولة والتربية والتي تطرقت إلى الكثير من القضايا التي لم تكن واردة في سياق النصوص الفرويدية من قبيل : الاستقلالية والتبعية الوجدانية ، وصورت الطفل لجسده الخاص ، والرضاعة بين الحاجة والرغبة...والأمر ينطبق كذلك على -التحليل النفسي والجنس- مع "وليام رايش" الذي صاغ لنا نظرية الذروة الجنسية ، كما ينطبق على -التحليل النفسي والمجتمع- مع "إريك فروم" و "ألبيرماركور".



لكن أهم وأقوى الاضافات التي أغنت رصيد التحليل النفسي ، هي تلك التي قام بها "جاك لاكان 1901-1981" ، حيث اقترح علينا نظرية متكاملة تميزت بالعودة إلى "فرويد" في التحليل النفسي من جهة ، والعودة إلى "دي سوسير" في اللسانيات من جهة ثانية.
لقد كانت كل جهود "جاك لاكان" تنصب حول إعادة قراءة ألية اللاشعور ، والتي اعتبرها هي نفسها ألية من أليات اللغة. فبلاغة اللاشعور ، هي نفسها بلاغة اللغة ، وإذا كان اللاشعور ، حسب "فرويد" ، يعتمد على خاصيتي التكثيف والتحويل ، فإن "لاكان" أعاد صياغتها بواسطة مقولات لسانية ( استعارة ، كناية ، مجاز مرسل..) كما سعى "لاكان" ، من خلال العودة إلى لسانيات "دي سوسير" ، الاستفادة من النموذج البنيوي الذي استطاع به ، إحداث "قطعية ابستيمولوجية" مع التراث اللغوي السابق ، هذا الأخير كان يستند إلى التفسير التاريخي للوقائع اللسانية. وحتى يكتمل وضع الذات داخل لعبة اللغة ، أضاف "لاكان" الأخر ، الذي يمثل ذاتا بالنسبة لدال الأخر ، فالذات بمفردها ، وهم ولا شيء إذا لم تتقابل مع الأخر.
⤆ لقد استطاع التحليل النفسي بعد "فرويد" ، أن يصمد أمام النقد ويواصل طريقه ويكتسح المساحات في التأثير على الكثير من الحقول المعرفية. لكن رغم كل ذلك لم يسلم من الانتقادات العنيفة ، وفي بعض الحالات كانت تخرج عن الحدود المسموح بها ، في قواعد النقد الموضوعي.

google-playkhamsatmostaqltradent