الفكر السيكولوجي في الفلسفة العربية - الإسلامية |
لقد تأثرت الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، ولكن هذا التأثر لا يخفي الملامح الخاصة بالفلسفة الإسلامية التي حاولت التوفيق بين الإسلام والتراث اليوناني. وقد ظهر في ظل الحضارة العربية-الإسلامية مفكرون وعلماء كثر كان لهم فضل كبير في حفظ التراث الفكري الإنساني وترجمته وإغنائه بالعديد من الإبداعات والإضافات التي شكلت مقدمة أساسية من مقدمات النهضة الأوربية. وقد اهتم المفكرون المسلمون بموضوع النفس وكان لهم بصمة خاصة في معالجة موضوعها ومختلف الاضطرابات والأمراض التي تعتريها. ومن بين هؤلاء المفكرون والعلماء نذكر على وجه الخصوص الكندي و الفرابي وابن سينا وابن خلدون زابن رشد.
اهتم الكندي (801-866م) بموضوع النفس، وأفرد لها عددا كبيرا من مؤلفاته. وهو يرى أنها مختلفة عن الجسد بنية ووظيفة ومآلا. ويتم التفاعل بين الإنسان ومحيطه -حسب الكندي- على ثلاث مستويات: الإدراك الحسي، وتتولى القيام به الحواس الخمس. والمصورة أو المتوهمة، التي تقوم بوظيفة التصور، أي الاحتفاظ بصور الأشياء والموضوعات بعد إدراكها وأثناء غيابها من جهة، ووظيفة تخيل هذه الصور وتركيبها من جهة ثانية. وأخيرا العقل الذي يتولى معرفة الظواهر والحوادث وجواهرها على نحو أعمق وأشمل مما تقوم به النفس في المستويين السابقين.
أما الفرابي (257-339 ه، 870-950م)، فتشمل النفس عنده خمس قوى متعاقبة من حيث وجودها الزماني وأهميتها،وهي القوة الغاذية، والقوة الحاسة، والقوة النزوعية والقوة المتخيلة، والقوة الناطقة. وما ينبغي ملاحظته في تقسيم الفرابي لقوى النفس هو اهتمامه بالجانب الانفعالي والإرادي وعلاقته بالجانب المعرفي في السلوك الإنساني. ومع أن الفلاسفة الذين سبقوا الفرابي قد تعرضوا إلى موضوع الانفعال، إلا أنهم لم يقفوا على علاقته بالعمليات المعرفية وتأثيره عليها وتأثره بها.
ويرى الفرابي في كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة" أن الإنسان لا ينال الكمال إلا باجتماع جماعة كبيرة متعاونة، وقد شبه مدينته الفاضلة ببدن تام صحيح تتعاون أجزاؤه كلها على إتمام حياته وحفظها.
لقد مهد نشاط الفرابي الفكري السبيل أمام ظهور أفكار عظيمة أكثر نضجا في ميدان علم النفس ووفرت أعماله كثيرا من الوقت والجهد على من جاء بعده.
وأما ابن سينا، فقد أولى معرفة الإنسان اهتماما كبيرا وصاغ نظريته السيكولوجية على نحو متناسق ومنتظم جعلها تفوق جميع ما سبقها من نظريات دقة وشمولية.
فبالإضافة إلى نظره إلى النفس من خلال مستويات ثلاثة: المستوى النباتي( التغذية والنمو والتكاثر ) والمستوى الحيواني ( الإحساس والتخيل والحركة ) والمستوى الإنساني ( العقل )، فقد ربط الوظائف النفسية بالعمليات العصبية التي تتم أثناء تفاعل الإنسان أو الحيوان مع الوسط الخارجي، متجاوزا بذلك تعاليم المفكرين القدماء الذين كانوا يعتقدون باستقلالية المجالين النفسي والفيزيولوجي وعدم وجود علاقة تربط أحدهما بالأخر. وتتجسد نظرة ابن سينا المبدئية إلى العلاقة بين النفس والجسد بصورة واضحة عبر دراسته للجانب الوجداني من النفس البشرية. فقد حاول التعرف على السبب النفسي للضعف العضوي الذي كان يعاني منه أحد الفتيان من خلال إسماعه مجموعة من الكلمات، وتحديد ما يثيره منها بالاعتماد على تغير نبضات القلب وتبدلها كرد فعل تقوم به العضوية على مثيرات العالم الخارجي. وتعد هذه التجربة أول محاولة للتشخيص النفسي في تاريخ الفكر الإنساني، حيث سبق بها ابن سينا محاولات علماء النفس في العصر الحديث لوضع اختبارات تمكنهم من الكشف عن الجوانب الانفعالية والوجدانية لدى الإنسان.
لقد لاقت تعاليم ابن سينا في النفس أصداء واسعة وعميقة في أعمال الفلاسفة العرب والمسلمين ومن بعدهم الفلاسفة الأوربيين من توماس الأكويني إلى رينيه ديكارت.
وأما فيما يخص ابن رشد (525-599ه)، فقد وجه نقدا عنيفا إلى نظرة أهل عصره إلى الأمراض النفسية، حيث وجد أنها تعتمد في أساسها على معتقدات باطلة وتقوم على السحر والخرافة. ولذا تراه يلح على ضرورة التخلي عن الأساليب والطرائق المستخدمة في معالجة هذه الأمراض، وينصح بإقامة مراكز خاصة تعنى بالمرضى النفسيين ومعالجتهم عن طريق العقاقير الطبية والراحة والاستجمام والتدريبات الخاصة. ولذلك أكد على أن البحث في النفس قسم من العلم الطبيعي يبحث في الجسم الطبيعي من حيث هو مركب من صورة (أي النفس) ومادة (أي البدن). كما قسم ابن رشد النفس أيضا إلى خمسة أقسام: الغاذية والحاسة والمتخيلة والنزوعية والناطقة.