الإخلاص و أثره في حياة الإنسان |
كثيرة هي الدراسات
حول مفهوم الإخلاص في مؤلفات أهل العلم والفقه تأصيلا وتفريعا، بل إن غالب
المؤلفات الشرعية خاصة القديمة منها افتتحت مباحثها بباب الإخلاص، منها ما ورد في
كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله؛ فقد استهل كتابه بحديث إنما الأعمال
بالنيات دلالة على مكانة الإخلاص ضمن المنظومة التشريعية، كما أن هذا المفهوم له
حضور بارز في كتب التربية و التزكية عند العلماء الربانيين، بل هو مدار الإرشاد و
التوجيه التربوي التزكوي، فلا عجب أن يحظى بهذا الاهتمام الكبير لأصالته في الدين
فهو أول معيار لقبول أعمال المكلف كما هو معلوم، إذن هذا المفهوم له أثر عميق
ومكانة مهمة في فلسفة التشريع الإسلامي، باعتبار مآلاته و مقاصده الدنيوية و
الأخروية.
إن الإخلاص كقيمة
دينية وجدانية و رمز إنساني فطري يتعدى حدود النظرية و المفهوم إلى فضاء العمل و
التطبيق، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن العبادة إلى العادة، ومن ما هو ديني إلى ما
هو دنيوي، فالإخلاص يتسع لكل مجالات الحياة سواء في التدين أو في العلم أو في
العمل و الوظيفة أو في الدعوة أو في غيرها، كما أنه في كل حركة و في كل سكون كما
قال سهل بن عبد الله التستري: "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى
خاصة"، إذن الإخلاص له أثر عميق في عدة مجالات، لكني أقتصر على أربعة منها:
مجال التدين، ومجال العلم، ومجال العمل، ومجال الدعوة؛ وتفصيل ذلك كالتالي:
مجال التدين:
لا شك أن تدين المسلم لا يستقيم دون إخلاص، بل
إن أعماله لا تُقبَل بدونه، قال تعالى : "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا
صالحا ولا يشرك في عبادة ربه أحدا" قال ابن كثير: وهذان ركنا العمل المتقبل،
لابد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول لله، فصلاة العبد و صيامه و حجه بل
و سائر العبادات لا تُقبل بدون الإخلاص، فهذا المفهوم له اثر في صلاح تدين العبد
وقبوله عند الله عز وجل، ولهذا قال عمر الفاروق رضي الله عنه : "الرُّكَّب
كثير و الحاج قليل" يتحدث عن الحج، لأن ما كل راكب يقصد الحج فهو حاج بل
العبرة بالإخلاص و الصدق لا بأن يُقال فلان حاج، وكذلك في الصلاة إذا وُجِد
الإخلاص فيها حضر الخشوع و الاطمئنان اللذان يولدان السعادة النفسية التي عبر عنها
الحبيب صلى الله عليه و سلم بالراحة " أرحنا بها يا بلال"، و الواقع
يشهد أن السعادة لا تجد إلى قلب المنافق سبيلا، لمذا؟؟ لخلو الإخلاص من قلبه، كما
الإخلاص في الصلاة يولد مناعة مضادة للفواحش و المنكرات مصدا لقوله تعالى:
"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر" ، وقس على هذا سائر العبادات إذا
أداها المؤمن بإخلاص أتت أُكلها و أدت دورها، و العكس بالعكس، فغير المخلص تجده
يشتكي من شقاوة الحياة رغم أنه يصلي فتجده ربما يفعل من الفواحش و المنكرات ما لا
يَتصور عاقل أن فاعلها يُصلي، لكن ما الخلل ؟؟ الخلل في الإخلاص.
مجال العلم:
مما لا يخفى على أحد أن
الإخلاص من أسباب التوفيق في طلب العلم لأنه مظنة التقوى التي هي من أسباب فلاحه
قال تعالى: "واتقوا الله و يعلمكم الله"، ولا يُتصور تقوى بدون إخلاص،
وهل التقوى إلا الإخلاص؟؟ ثم إن طالب العلم المخلص همه الذي يهمه العلم لا الشهادة،
وهمته طلب العلى لا المناصب، وشغله الشاغل جمع العلم في الصدر و التفقه فيه
بالقراءة و المطالعة والمذاكرة لا الغش و الاحتيال و التملق، لأن طالب العلم إذا
تشرَّب قلبُه الإخلاص انتقل من التفكير في المصلحة الشخصية إلى التفكير في نفع
الأمة بنشر العلم بعد التمكن منه، وبهذا يحيا العلم وتُشرق شمسه، فتستعيد بذلك
الأمة مجدها العلمي و عافيتها بعد الفتور والجمود، وتسترجع قوتها بعد الضعف و
الهوان، والحال كذلك مع العالم المخلص فهو لا يبتغي بالعلم المناصب أو الشهرة أو
الثناء و المدح، بل يبتغي نفع الأمة بالعلم فيؤثر حينئذ في طلابه فيكون أسوة حسنة
لهم و يستقر علمه في قلوبهم قبل أن يستقر في كراريسهم، فتصلح بذلك مسيرتهم
العلمية، ثم إن العالم المخلص لا يخاف في الله لومة لائم فيجهر بالحق لا يحابي في
ذلك كبيرا و لا صغيرا، وبهذا تصلح أمور الدنيا و الآخرة.
مجال العمل :
إن العامل المخلص لله عز وجل سواء كان تاجرا أم
موظفا في شركة أو مستشفى أو برلمان حكومي عابد لله في الأصل لأن العمل عبادة، فهذا
الإخلاص يدفعه إلى العطاء و الفعالية و الإنتاج، فيتحول من موظف أو تاجر عادي - لا
يحسن العمل إلا بوجود رئيسه أو بالمكافآت و التشجيعات فإذا غاب هذا الباعث أهمل
عمله و لم يتقنه بل ربما تركه – إلى موظف أو تاجر فعال ومنتج يمضي في عمله مستحضرا
قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرئ عمل عملا فأتقنه"، فمن
هذا المنطلق يكون الإبداع و الإتقان في العمل، كما أن المسؤول في مركز من مراكز
الدولة إذا لم يتشرب قلبه هذا المعنى الجميل لا يجد العمل الجميل إلى نفسه سبيلا،
بل تجده أقرب إلى السارق منه إلى المسؤول، و إلى الخائن منه إلى الأمين، و لا يغني
عن الإخلاص ألف مراقب عليه إذا كان طبعه الإهمال واللامبالاة، بخلاف المسؤول
المخلص الذي يعرف ثقل الأمانة فيؤديها بحق لا يرجو سمعة و لا رياء مسترشدا بقول
المصطفى صلى الله عليه و سلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وكذلك
حال التاجر المخلص لا يعرف الغش و الاحتيال والتدليس و الغرر إلى قلبه سبيلا،
وبهذا تتحسن معاملاتنا التجارية بيننا فيقوى اقتصادنا، والسر هو الإخلاص.
مجال الدعوة:
و هذا مجال لا
يتحقق إلا بالإخلاص، فالداعية إلى الله عز وجل هدفه هداية الناس، لكن إذا كانت
دعوته من أجل الشهرة أو الظهور أو المنصب فكيف تصل دعوته إلى القلوب ؟ وكيف تستمع
إليه قلوب المذنبين الغافلين وهو ينشد الشهرة و الظهور؟ و كيف يؤثر الداعية في
الناس و كلامه يخرج من لسانه لا من قلبه؟ و القاعدة أن ما خرج من القلب فيصل إلى
القلب و ما خرج من اللسان فلا يتجاوز الآذان، إذن مسألة الدعوة ليست مهارة خطابية
أو جلسات وعظية أو معلومات دينية، لا بل هي صدق و إخلاص في تبليغ الخير
للناس، فكم من داعية قليل العلم و لا يحسن الخطابة لكن أثّر في الناس و ربما أسلم
على يده ما شاء الله و اهتدى على يده خلق كثير فإذا كشفت عن قلبه وجدته يفيض
إخلاصا و صدقا لله تعالى لا يرجو من دعوته ثناء و لا إعجاب الناس بكلامه و لا محبة
الناس و لا مدحهم له، بل هو متعلق برباط أقوى و أعلى هو رباط الصدق و الإخلاص،
والعكس بالعكس فقد تجد داعية أو خطيبا مفوّها يحسن مهارات الخطابة و الإلقاء، لكن
تأثيره في الناس ضعيف جدا، بل نادرا ما يسلم أو يهتدي على يده أحد، فالسر في نجاح
الدعوة الإخلاص الإخلاص الإخلاص ثلاثا .
في الأخير أقول إن سر النكبات و النكسات التي أصابت
الأمة الإسلامية في المشرق و المغرب هو غياب الإخلاص في العمل سواء السياسي أو
الثقافي أو العلمي أو الاجتماعي أو الدعوي أو غيره، كما أن سر التقدم والنهضة
والشهود الحضاري و النصر والتأييد الإلهي هو الإخلاص و الصدق، إذ أن هذا المفهوم
ليس قيمة دينية فحسب أي لها آثار أخروية فقط، بل تتعدى ذلك إلى كونها قيمة دنيوية
لها آثار آنية و مستقبلية، و أختم هذا المقال بقولة آية الله العظمى الشيرازي
الشيعي في كتابه الإخلاص سر التقدم :"الإخلاص ليس طريقا إلى ثواب الآخرة فحسب
بل هو طريق إلى تقدم الإنسانية وهو سر كل تقدم يشهده البشر".
سعيد الصنهاجي طالب باحث في العلوم الشرعية